[b]تجد المرأة اليوم نفسها، بسبب علاقة حميمةها وصفاتها الفسيولوجية ومايعلقه المجتمع على ذلك، تحت ضغطٍ كبير يعرض حياتها وسلامتها للخطر في مجتمعٍ غافلٍ تماماً عن معاناتها وعاجزٍ عن فهم أسبابها فضلاً عن توفير الحلول. فامرأة اليوم تجد نفسها تائهةً ممزقةً بين خطابات عديدة تعدها كلها بالجنة وترسم لها ألف طريقٍ مختلفٍ للوصول إليها، لاتعرف بماذا تثق وأي الطرق هو الأصح والأقرب. لذا ينتهي بها المطاف سائرةً في كل الطرق ، تحاول إرضاء الجميع، دون أن تصل إلا إلى فوضى رهيبة بنتائج قاتلةٍ في بعض الأحيان.
المرأة اليوم هي فريق عمل وليست شخصاً واحدا. تتحمل واجبات ومسؤوليات متناقضة وتحمل في داخلها هموماً وتطلعات متضاربة مطلوبٌ منها بحكم المجتمع أن تلبيها جميعها حتى لو أدى ذلك إلى انهيارها المحتوم. النموذج الذي يقدمه المجتمع للمراة المثالية والشروط التي يضعها الرجال الباحثون عن زوجة هي أن تكون عاملة وناجحة ومثقفة وأنيقة وأماً مثالية وربة بيت لا تستعين بخادمة أجنبية (لأن الخادمات "شر محقق")، وزوجة متفهمة وحنونة لا تغضب ولا تنكد على زوجها تلبي كل رغباته وتطلعاته العلاقة حميمةية. وأن تكون جميلة حسنة المظهر تحافظ على اناقتها وهندامها وأنوثتها. وفي نفس الوقت توصم بالسخف والتفاهة إذا ضُبطت تطالع آخر صيحات الموضة والتجميل.
هذه هي المعادلة التي تقدم للمرأة وعليها هي وحدها أن تحلها بكل تناقضاتها.
مطلوبٌ من المرأة ان تكون مثقفةً متعلمةً وصاحبة شهادة وأن تعمل في وظيفةٍ مميزة وان تكون ناجحةً في مهنتها وأن تزاولها بانضباطٍ وتفرغٍ وصفاء ذهنٍ وأن تلتزم بساعات العمل الرسمية بالدقيقة وتتحلى بإنتاجية عالية كالرجل تماماً. وفي الوقت نفسه مطلوبٌ منها ان تكون ربة بيت ممتازة تجيد الطبخ والتنظيف والغسيل وتقوم بمهامها المنزلية على أكمل وجه. ومطلوبٌ منها كذلك أن تحمل وتلد أطفالاً كثيراً لان خير النساء الودود الولود. وفي خلال تسعة أشهر الحمل، عليها أن تحافظ على سلامة الجنين ونموه الطبيعي دون أن يخل ذلك بعملها ووظيفتها ، وحين تشارف على فقدان حياتها في عملية الولادة وتمر بأصعب التجارب الوجودية جسدياً وعاطفياً ، عليها أن تتعافى بسرعة وتعود إلى عملها حتى لا يتضرر الإقتصاد الوطني . وفي الوقت نفسه عليها أن تكون أماً رائعة لأنها مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق. فعليها أن ترضع وتسهر الليل حتى الرابعة فجراً مع طفلها الباكي، ثم تستيقظ في السادسة لتذهب بكل نشاطٍ وحيوية إلى وظيفتها الجميلة. وإذا مرض الطفل أو تأخر، فيما بعد، دراسياً فعليها أن تتحمل اللوم والتأنيب بكل شجاعة لأنها أهملت طفلها وتركته للشغالة واختارت العمل.
اما إذا اختارت البقاء في المنزل إلى جانب طفلها، فعليها أن تتحمل المن والأذى من زوجها وأهله لانها تركته يتحمل المسؤولية المادية وحده واختارت "النوم والراحة "وتعليق شهادتها على الحائط. وعليها كذلك أن تتفهم حاجة زوجها للزواج من أخرى عاملة حتى يحافظ على مستواه الإجتماعي أمام الناس، فهل يصح ان تكون زوجة المدير أو المهندس ربة بيتٍ عاطلة عن العمل؟! وعليها كذلك أن تتقبل الحياة كعالة على زوجها بلا استقلالية ولا ضمانةٍ مادية بكل ما يمثله ذلك من خطر ومايعرضها له من احتمالات الإساءة لكونها عاجزة ومعتمدة وبلا دخل. وعليها كذلك أن تقتل في نفسها أي طموح أو رغبةٍ في النجاح الأكاديمي أو العملي وأن تعطل مواهبها وقدراتها فطفلها ومطبخها بها أولى.
امرأة اليوم تعمل في عشر وظائف كل يوم، واحدةٌ منها فقط مدفوعة الأجر. فهي معلمة (مثلاً) وطاهية ومنظفة وجليسة أطفال وتعتني بكبار السن في المنزل ومعالجة نفسية تستمع بكل صبر لمشاكل اطفالها وزوجها وشريكة مثيرة في الفراش، وعليها أن تؤدي كل هذا بإتقان وتفانٍ وإخلاص. وهي بالإضافة إلى كل هذا، المخزون العاطفي للأسرة الذي يجب ان لاينفد، تمدهم جميعاً بالصبر والأمل والتفاؤل وتشيع في نفوسهم البهجة، ولا يكف عقلها عن الإتيان بأفكار رائعة لتربية الأطفال والترفيه عن الأسرة والوفاء بصلة الرحم وتأدية الواجبات الإجتماعية. وعليها ان تحافظ كذلك على رومانسيتها وعاطفتها المتجددة التي يجب ان تتضمن كثير من الورود والشموع وجلسات تدليك الأقدام وملابس النوم العارية حتى لا يملها الزوج ، وإلا فلا تلومه إن استبدلها باخرى أو أخريات. أليست هي من أهملته وانشغلت بالبيت والأولاد؟! وإذا دعاها ورفضت ان تأتيه في الفراش لأنها متعبة طول اليوم من العمل في البيت وخارجه، فلها الويل كل الويل لأن ملائكة الله كلهم سيتركون كل أعمالهم الأخرى ويتفرغوا للعنها هي حتى تصبح !
وفوق كل هذا، إذا قصر الرجل المسكين في عمله ، فهي الملامة لأنها لم توفر له الإستقرار والجو المناسب للعمل والإنتاج.
أما هو فمادام يعمل في وظيفة جيدة تدر عليه دخلاً مريحاً فلا غبار عليه إن فعل ماشاء في باقي وقته، فهل يعيب الرجل شيءٌ إلا جيبه؟ تجد الرجال شرقاً وغرباً –في معظمهم- يعودون من وظائفهم ليسترخوا أمام التلفاز أو يخرجوا مع أصدقائهم للترفيه والتسلية دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير. النجاح الوظيفي وتنمية الذات هي أولوياتهم التي لا يناقضها شيء ولا يعيقها شيء ،ومادام ينفق على امرأته وأطفاله ويعاشرها مرةً كل أربعة أشهر فلا جناح عليه في الباقي.
وكأن الطبيعة والفسيولوجيا اختارت أن تتحالف مع الظلم الإجتماعي والمؤسسي الذي ترضخ له المرأة فاختصتها دوناً عن الرجل بآلامٍ من شتى الأنواع والدرجات. فهي من تتحمل آلام الدورة الشهرية كل شهر وآلام افتضاض البكارة، وآلام الولادة والنفاس بالإضافة إلى عمليات التجميل التي تجريها كل امراة دورياً حتى تتجمل لزوجها. لأن شعر جسده زينة له واكتمالٌ لرجولته، وشعر جسدها قذارةٌ لابد ان تتخلص منها حتى لا ينفر المسكين منها ويتأذى بصره. العجيب هو لماذا لا يتأذى من رؤية نفسه في المرآة إذن وينفر من ذاته؟
وبالإضافة إلى الألم ، تجعلها دورة الهرمونات كل شهر في جسدها ، في حالاتٍ نفسية عجيبة تعجز نفسها عن فهمها. فتارةً تكون سعيدة حد البكاء، وتارةً في أشد حالات الإكتئاب عاجزةً عن التواصل مع الآخرين والقيام بمسؤولياتها. ورغم أن كل ماتحتاجه في هذه المرحلة حتى تمر بسلام هو قليلاً من الحب والتفهم، إلا أن عقل الرجل و منطقه يصاب ببلادة غريبة تجاه هذا الأمر بالتحديد ويرفض أن يستوعب عمل البيولوجيا التي يحترمها و إليها ينسب أفضليته على المرأة.
كل هذه الضغوط والمسؤوليات التي ترزح تحت وطأتها المرأة اليوم تجعلها منهكةً جسدياً وعاطفياً وعرضة للتمزق والإنهيار. وهي في هذا وحيدة، لايدعمها قانون ولا مؤسسات ولا شريكٌ متفهم، إلا فيما ندر.
وربما يستخف البعض بهذا لأنه -كما يدعون- معاناةٌ شخصية، إلا أن آثاره في الواقع أخطر بكثير مما يدركون.
قبل أسابيع، حضرتُ محاكمة أمٍ قتلت أطفالها هنا في السلطنة. رأينا صور جثث الأطفال على السرير ملطخين بدمائهم ، وحبلٌ يتدلى من مروحة الغرفة كان مهياً لانتحار الأم بعد إتمامها لفعلتها لولا أن قُبض عليها قبل أن تنتحر. على إثر عرض الصور المؤلمة، خرج البعض يبكون على مصير الأطفال، وتعالت من حولي اللعنات والشتائم لتصب على رأس الأم. لكنني أشفقتُ عليها، شعرت بمعاناتها وعذابها الذي دفعها إلى فعلةٍ كهذه. رحل زوجها وتركها وحيدةً مع اطفالها، وتكالبت عليها كل الضغوط التي تعاني منها امرأة اليوم فسقطت فريسة الإكتئاب الشديد الذي أفقدها إتزانها ففعلت ما فعلت.
مارأيته في قاعة المحكمة نتيجة طبيعية لما تعيشه المرأة من ضغوط وعذابات وصراع يومي. حياتها باتت جهادٌ دائمٌ لا ينتهي للتوفيق بين ألف مسؤولية وواجب لا يمكن ،عقلاً، أن تتفق بدون مساندة ودعمٍ حقيقيٍ ومعنوي. وأول حاجات المرأة هي تفهم الشريك والعائلة والمجتمع. يجب أن يدرك الرجل ماتمر به زوجته وأخته وامه ، وأن يدرك المجتمع أنه قد ظلم المرأة وأجحفها حقها في جوانب عديدة. وبالفهم والإرادة ستُفتح أبواب الحلول.